فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قِيلَ إنَّ الْأَغْلَبَ فِي {خَلْفٌ} بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لِلذَّمِّ؛ وَقَالَ لَبِيدِ: وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ وَقَدْ جَاءَ بِالتَّسْكِينِ فِي الْمَدْحِ أَيْضًا، قَالَ حَسَّانُ: لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إلَيْكَ وَخَلْفُنَا لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} قِيلَ إنَّ الْعَرَضَ مَا يَقِلُّ لُبْثُهُ، يُقَالُ عَرَضَ هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ عَارِضٌ خِلَافُ اللَّازِمِ، قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} يَعْنِي السَّحَابَ لِقِلَّةِ لُبْثِهِ وَرُوِيَ فِي قوله: {عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} أَنَّ مَعْنَاهُ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ {أَهْلُ إصْرَارٍ عَلَى الذُّنُوبِ}.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْبِعُهُمْ شَيْءٌ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}.
{خلف} معناه حدث خلفهم و{بعدهم خلْف} بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد: [الكامل]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان: [الطويل]
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ** لأولنا في طاعة الله تابع

والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح، قال أبو عبيدة والزجاج: وقد يستعمل في الذم أيضًا ومنه قول الشاعر:
الا ذلك الخلف الأعور

وقال مجاهد: المراد ب الخلف هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس {ورثوا الكتاب} وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري {وُرّثوا الكتاب} بضم الواو وشد الراء، وقوله: {يأخذون عرض هذا الأدنى} إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ويعن ولا يثبت، و{الأدنى} إشارة إلى عيش الدنيا، وقوله: {ويقولون سيغفر لنا} ذم لهم باغترارهم وقولهم: {سيغفر} مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم: «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم».
وقوله تعالى: {ألم يؤخذ عليهم} الآية، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل، و{الكتاب} يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى، وقوله: {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك، وقرأ جمهور الناس: {يقولوا} بياء من تحت وقرأ الجحدري: {تقولوا} بتاء من فوق وقوله: {ودرسوا} معطوف على قوله: {ألم يؤخذ} الآية بمعنى المضي، يقدر: أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، {وادارسوا} ما فيه وقال الطبري وغيره، قوله: {ودرسوا} معطوف على قوله: {ورثوا الكتاب}.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله: {ودرسوا} يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله: {ألم} ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} وقرأ جمهور الناس: {أفلا تعقلون} بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة: {يعقلون} بالياء من أسفل. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فخلف من بعدهم} أي: من بعد الذين وصفناهم {خَلْفٌ} وقرأ الجوني، والجحدري: {خَلَفٌ} بفتح اللام.
قال أبو عبيدة: الخَلَفُ والخلفُ واحد، وقوم يجعلون المحرَّك اللام، للصالح، والمسكَّن لغير الصالح.
وقال ابن قتيبة: الخَلْفُ: الرديء من الناس ومن الكلام، يقال: هذا خَلْفٌ من القول.
وقال ابن الأنباري: أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ، باسكان اللام، في الرديء المذموم.
وتفتح اللام في الفاضل الممدوح.
وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح، والخلَفُ على المذموم، غير أن المختار ما ذكرناه.
وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: النصارى.
والثالث: أن الخَلْفَ من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقولان عن مجاهد.
فإن قيل: الخَلْفُ واحد، فكيف قال: {يأخذون} وكذلك قال في [مريم: 59] {أضاعوا} فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين.
أحدهما: أن الخَلْف: جمع خالف، كما أن الركب: جمع راكب، والشَّرْب: جمع شارب.
والثاني: أن الخَلْف مصدر يكون للاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث.
قوله تعالى: {ورثوا الكتاب} أي: انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التوراة.
والثاني: الإنجيل.
والثالث: القرآن.
قوله تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي: هذه الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها.
وقيل: سماه عرضًا، لقلة بقائه.
قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام.
وقيل: هو الرِّشوة في الحكم.
وفي وصفه بالأدنى قولان:
أحدهما: أنه من الدُّنُوِّ.
والثاني: أنه من الدناءة.
قوله تعالى: {سيُغفَرُ لنا} فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: إنا لا نؤاخَذ، تمنِّيًا على الله الباطلَ.
والثاني: أنه ذنْب يغفره الله لنا، تأميلًا لرحمة الله تعالى.
وفي قوله: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شيء، فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن.
والثاني: أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} قال ابن عباس: وكّد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار.
قوله تعالى: {ودرسوا ما فيه} معطوف على {ورثوا}.
ومعنى {درسوا ما فيه}: قرؤوه، فكأنه قال: خالفوا على علم.
{والدار الآخرة} أي: ما فيها من الثواب {خير للذين يتقون أفلا يعقلون} أن الباقي خير من الفاني.
قرأ ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم: بالتاء، والباقون: بالياء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يعني أولاد الذين فرّقهم في الأرض.
قال أبو حاتم: الخَلْف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء.
والخلَف بفتح اللام البَدَل، ولدًا كان أو غريبًا.
وقال ابن الأعرابيّ: الْخَلَفُ بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح.
قال لَبِيد:
ذهبَ الذين يُعاشُ في أكنافِهم ** وبقيْتُ في خلْف كجِلْد الأجْرَبِ

ومنه قيل للرديء من الكلام: خَلْف.
ومنه المثل السائر: سَكَت ألْفًا ونطق خَلْفًا.
فخلفٌ في الذَّم بالإسكان، وخَلَفٌ بالفتح في المدح.
هذا هو المستعمل المشهور.
قال صلى الله عليه وسلم: «يَحمِل هذا العلم مِن كل خَلَف عدولُه» وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر.
قال حسان بن ثابت:
لنا القَدَمُ الأُولَى إليك وخَلْفُنا ** لأوّلنا في طاعة اللّه تابع

وقال آخر:
إنا وجدنا خَلَفًا بئس الخلَفْ ** أغلق عنا بابَه ثم حلف

لا يُدخل البوابُ إلا من عرف ** عبدًا إذا ما ناء بالحِمل وَقَفْ

ويروى: خَضَف؛ أي رَدَم.
والمقصود من الآية الذّمّ.
{وَرِثُواْ الكتاب} قال المفسرون: هم اليهود، ورِثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتَوْا محارمه مع دراستهم له.
فكان هذا توبيخًا لهم وتقريعًا.
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم ونهمهم.
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} وهم لا يتوبون.
ودلّ على أنهم لا يتوبون.
قوله تعالى: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعَرَض: متاع الدنيا؛ بفتح الراء.
وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير.
والإشارة في هذه الآية إلى الرَشا والمكاسب الخبيثة.
ثم ذمّهم باغترارهم في قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصِرّون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقْلَع وندم.
قلت: وهذا الوصف الذي ذمّ الله تعالى به هؤلاء موجود فينا.
أسند الدارمِيّ أبو محمد: حدّثنا محمد بن المبارك حدّثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يُكْنَى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلَى القرآنُ في صدور أقوام كما يَبْلَى الثّوب فيتهافَت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يَلْبَسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالُهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئًا.
وقيل: إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة؛ أي وإن يأت يهودَ يَثْرِبَ الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عَرَضٌ مثْلُه يأخذوه كما أخذه أسلافهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فيه مسألتان.
الأُولى: قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب} يريد التوراة.
وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألاّ يميل الحكام بالرُّشَا إلى الباطل.
قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأُخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبيّنا صلى الله عليه وسلم وكتابِ رَبِّنا، على ما تقدّم بيانه في النساء.
ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} أي قرؤوه، وهم قَرِيبُو عهد به.
وقرأ أبو عبد الرحمن {وادارسوا ما فيه} فأدغم التاء في الدال.
قال ابن زيد: كان يأتيهم المُحِقّ بِرشوة فيُخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له.
وقال ابن عباس: {أَلاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غُفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به.
وقال ابن زيد يعني في الأحكام التي يحكمون بها؛ كما ذكرنا.
وقال بعض العلماء: إن معنى {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} أي مَحَوْه بترك العمل به والْفَهْم له؛ من قولك: درستِ الريح الآثار، إذا مَحَتْها.
وخط دارس ورَبْع دارس، إذا امحى وعفا أثره.
وهذا المعنى مواطىء أي موافق لقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} الآية.
وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] حسب ما تقدّم بيانه في البقرة. اهـ.